فصل: تفسير الآيات (43- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (37- 42):

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}
{الذين} في محل النصب ردّاً على {مَّنْ} وقيل: المختال الفخور، {يَبْخَلُونَ} البخل في كلام العرب: منع الرجل سائله ما لديه من فضل عنه، وفي الشرع: منع الواجب، وفيه أربع لغات: البخل بفتح الباء والخاء وهي قراءة أنس بن مالك وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحمزة والكسائي وخلف والمفضل ولغة الأنصار. والبَخْل بفتح الباء وسكون الخاء وهي قراءة قتادة وعبد الله بن سراقة، وأيّوب السجستاني، والبُخُل بضم الباء والخاء وهي قراءة عيسى بن عمرو. والبُخْل بضم الباء وجزم الخاء وهي قراءة الباقين، واختيار أبي عبيد وأبي مسلم لأنها اللغة العالية، وفي الحديد مثله. وكلُّها لغات، ونظيره في الكلام: أرض جَرز، وجُرُز، وجُرْز.
واختلف العلماء في نزول الآية ومعناها، فقال أكثرهم: نزلت في اليهود؛ كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنوها للنّاس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة. يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل}، قال هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء.
قال ابن عباس وابن زيد: نزلت في كردم بن زيد وأُسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن يعمر وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت، كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم وينصحونهم، فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم؛ فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا ندري ما يكون، فأنزل الله عزّ وجلّ {الذين يَبْخَلُونَ} إلى قوله: {مِن فَضْلِهِ} يعني المال.
وقال يمان: يعني يبخلون بالصدقة. الفضل بن فضالة، عن أبي رجاء قال: خرج علينا عمران بن حصين في مطرف من خزّ لم نره عليه قبل ولا بعد، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة، أحبَّ أن يُرى أثر نعمته عليه».
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * والذين يُنْفِقُونَ} إلى الأخير، محل الذين نصب عطفاً على قوله: {الذين يَبْخَلُونَ}، وإن شئت جعلته في موضع الخفض عطفاً على قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} نزلت في اليهود، وقال السدي: في المنافقين، وقيل: في مشركي مكة المتفقين على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً} صاحباً وخليلا، وهو فعيل من الاقتران، قال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي

{فَسَآءَ قِرِيناً} فبئس الشيطان قريناً، وقد نصب على التمييز، وقيل: على الحال، وقيل: على القطع بإلقاء الألف واللام منه، كما نقول: نعم رجلا، عبد الله، تقديره: نعم الرجل عبد الله، فلمّا حذف الألف واللام نصب، كقوله: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50]، و{سَآءَ مَثَلاً} [الأعراف: 177]، و{وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29]، و{سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً} [الفرقان: 66]، {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69]، و{كَبُرَ مَقْتاً} [غافر: 35، فصلت: 2]، قال المفسرون: {فَسَآءَ قِرِيناً} أي يقول: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين} [الزخرف: 38].
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} وما الذي عليهم {لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً * إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلى آخر الآية، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ فإنّ الله لا يظلم أي لا يبخس ولا ينقص أحداً من خلقه من ثواب عمله شيئاً مثقال ذرّة مثلا، بل يجازيه بها ويثيبه عليها وهذا مثل يقول: إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة، فكيف بأكثر منها؟ والمراد من الكلام: لا يظلم قليلا، لأن الظلم مثقال ذرّة لا ينتفع به الظالم، ولا يبين ضرره في المظلوم. وقيل: [...]، ودليله من التأويل قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} [يونس: 44] في الدنيا.
واختلفوا في الذرّة، فقال ابن عباس: هي النملة الحميراء الصغيرة، لا تكاد تبين في رأي العين. وقال يزيد بن هارون: وزعموا أنّ الذرة ليس لها وزن، ويحكى أنّ رجلا وضع خبزاً حتى علاه الذرّة يستره، فلم يزد على وزن الخبز شيئاً. ودليل هذا التأويل ما روى بشير بن عمرو عن عبد الله أنّه قرأ: {إنّ الله لا يظلم مثقال نملة}.
يزيد بن الأصم عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، قال: أدخل ابن عباس يده في إناء ثم رفعها، ثم نفخ فيها، ثم قال: كلُّ واحدة من هؤلاء ذرّة، وقال بعضهم: أجزاء الهباء في الكوّة كلّ جزء منها ذرّة. وقيل: هي الخردلة.
وفي الجملة هي عبارة عن أقلّ الأشياء وأصغرها، روى أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأمّا الكافر، فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، لم يكن له حسنة».
قتادة: كان بعض أهل العلم يقول: لئن يفضل حسناتي على سيئاتي وزن ذرّة أحبُّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعاً.
عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خلص المؤمنون من النار يوم القيامة، وأمنوا فما مجادلة أحدكم صاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدّ من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أُدخلوا النار، قال: «يقولون: ربّنا إخواننا كانوا يُصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجّون معنا، فأدخلتهم النار؟ فيقول الله عزّ وجلّ: اذهبوا وأخرجوا من عرفتم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا أخرجْنا من أَمرتَنا، ثم يقول تعالى: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول: من كان في قلبه مثقال ذرّة».
وقال أبو سعيد: فمن لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ...}.
قال: «فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبقَ في النار أحد فيه خير». قال: «ثم يقول الله عزّ وجلّ: شُفعت الملائكة، وشُفعت الأنبياء، وشُفعت المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين»، قال: «فيقبض قبضة من النار أو قال: قبضتين ممن لم يعملوا له عزّ وجلّ خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصبّ عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون وأجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم: (عتقاء الله عزّ وجلّ)، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم عندي أفضل من هذا».
قال: «فيقولون: ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين». قال: «فيقول: ان لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: ربّنا وما أفضل من ذلك؟» قال: «فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً».
وقال آخرون: هذا في الخبر عن ابن [...] عن عبد الله بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين، ثم نادى مناد من عند الله: ألا من كان يطلب مظلمة إلى أخيه فليأخذ. قال: فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه، وإن كان صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، فيؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأشهاد: الأولين والآخرين، هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق، فليأتِ إلى جنبه ثمّ يقال له: آتِ هؤلاء حقوقهم. فيقول: من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة، قالت الملائكة: ربّنا أنت أعلم بذلك منهم، أعطينا كلّ ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة، فيقول للملائكة: ضاعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل منّي الجنّة، ومصداق ذلك في كتاب الله {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}.
وإن كان العبد شقيًّا، فتقول الملائكة: إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته، وبقي طالبون كثير، فيقول عزّ وجلّ: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكاً إلى النار.
فمعنى الآية على هذا التأويل: لا يظلم، مثقال ذرّة للخصم على الخصم، بل يثيبه عليها ويضاعفها له، وذلك قوله: {حَسَنَةً} بالنصب على معنى: وان يكن زنةُ الذرّة.
وقرأها أهل الحجاز رفعاً، بمعنى أن يقع أو يوجد حسنة، وقال المبرّد: معناه وإن تك حسنة باقية يضاعفها.
وقرأ الحسن: {نضاعفها} بالنون الباقون: بالياء، وهو الصحيح؛ لقوله: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} وقرأ أبو رجاء وأهل المدينة يُضعّفها. الباقون: يُضْعِفها وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيده: يضاعفها معناه يجعلها أضعافاً كثيرة، ويضعّفها بالتشديد يجعلها ضعفين.
{وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} أي من عنده، قال الكسائي: في {لدن} أربع لغات لدن، ولدى ولدُ ولدُنْ. ولمّا أضافوها إلى انفسهم شدّدوا النون.
{أَجْراً عَظِيماً} وهو الجنّة. عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إنّ الله عزّ وجلّ يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة، قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يعطيه ألفي ألف حسنة»، ثم تلا: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، إلى {أَجْراً عَظِيماً}.
وقال: «إذا قال الله: أجراً عظيماً، فمن بعد يدري قدره؟».
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} يعني فكيف يصنعون إذا جئنا من كلِّ أُمّة بشهيد حق منها، يشهد عليهم بما عملوا، {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {على هؤلاء شَهِيداً}؟ نظيره في البقرة والنحل والحج.
عاصم عن زر عن عبد الله قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ». فقرأت سورة النساء، حتى إذا بلغت، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «حسبنا».
{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء وتشديد السين، على معنى: تتسوّى فأُدغمت التاء بالسين، وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بفتح التاء وتخفيف السين، على حذف تاء تفعل، كقوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105]، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول، قالوا: سُوّيت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً، وقال قتادة وعبيدة: يعني لو تحركت الأرض فساروا فيها، وعادوا إليها كما خرجوا منها، ثم تسوى عليهم حتى تعلوهم، ابن كيسان: ودوّا أنهم لم يبعثوا طرّاً، وإنما نقلوا من التراب وكانت الأرض مستوية بهم. الكلبي: يقول الله عزّ وجلّ للبهائم والوحش والطير والسباع: كنّ تراباً فتسوّى بها الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافرون لو كانوا تراباً يمشي عليهم أهل الجمع، بيانه قوله عزّ وجلّ: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40].
قال الثعلبي: وحكي أُستاذنا أبو القاسم الحسين أنّه سمع من تأول هذه الآية: يعدل بهم ما على الأرض من شيء فدية، بيانه: {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج: 11] الآية.
{وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً}: قال عطاء: ودّوا لو تسوّى بهم الأرض، وإنّهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته، وقال آخرون: بل هو كلام مستأنف، يعني ويكتمون الله حديثاً؛ لأنّ ما عملوا لا يخفى على الله عزّ وجلّ، ولا يقدرون على كتمانه، الكلبي وجماعة: لا يكتمون الله حديثاً لأنّ خزنة جهنم تشهد عليهم.
سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أشياء تختلف عليّ في القرآن، أهو شك فيه؟ قال: لا، ولكن اختلاف في آيات الاختلاف عليك من ذلك، فقال: اسمع، الله عزّ وجلّ يقول: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وقال: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} فقد كتموا، فقال ابن عباس: أما قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا يومَ القيامة أنّ الله يغفر لأهل الإسلام قالوا: تعالوا فلنشهد فجحد المشركون، فقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} رجاء أن يغفر لهم فيختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً}. الحسن: إنّها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا يسمع الاّ همساً، وفي مواطن يتكلمون ويكذبون، ويقولون: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وما كنّا نعمل من سوء، وفي موطن يعترفون على أنفسهم، وهو قوله عزّ وجلّ {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} [الملك: 11]، وفي موضع آخر يسألون الرحمة، وإنّ آخر تلك المواطن أنّ أفواههم تختم، وجوارحهم تتكلم، وهو قوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً}.

.تفسير الآيات (43- 53):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشربون الخمرة، ويشهدون الصلاة وهم نشاوى، فلا يدرون كم يُصلّون، ولا يدرون ما يقولون في صلواتهم، فأنزل الله عزّ وجلّ {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} نشاوى من الخمر، جمع سكران، وقرأ النخعي: {جُنباً} وهما لغتان.
{حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} وتقرؤون في صلاتكم، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصّلاة، حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة. سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى}، قال: لم يعنِ سكر الخمر، إنّما يعني سكر النوم.
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم وهو في الصّلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنّه إذا صلّى وهو ينعس، لعلّه يذهب فيستغفر فيسبّ نفسه».
هشام بن عروة أيضاً عن أبيه عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس الرجل وهو يصلّي، فلينصرف فلعلّه يدعو على نفسه وهو لا يدري».
همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدرِ ما يقول، فليضطجع».
وروي عن عبيدة السلماني في هذه الآية أنّه قال: هو الحاقن، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلينَّ أحدكم وهو يدافع الأخبثين».
{وَلاَ جُنُباً} نصب على الحال، يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب، وقرأ إبراهيم النخعي: {جُنْباً} بسكون النون، يقال: رجل جنب، ورجلان وامرأتان جُنب، ورجال ونساء جُنب، والفعل منه أجنب يجنب، وأصل الجنابة البُعد، فقيل له: جنب لأنّه يجتنب حتى يتطهر، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} واختلفوا في معناها، فقال: بعضهم: الاّ إن يكونوا مسافرين ولا يجدون الماء فيتيمّموا، وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد والحكم والحسن بن مسلم وابن كثير.
وقال الآخرون: معناه إلاّ مجتازين فيه للخروج منه مثل أن ينام في المسجد، فيجنب، أو يكون الماء فيه، أو يكون طريقه عليه، فرخص له أن يمرّ عليه ولا يُقيم، وعلى هذا القول تكون الصلاة بمعنى المصلّى والمسجد كقوله: {صَلَوَاتٌ} [البقرة: 157] اي موضع الصلوات، وهذا قول عبد الله وابن المسيّب وابن يسار والضحاك والحسن وعكرمة وإبراهيم وعطاء الخراساني والنخعي والزيدي، يدلّ عليه ماروى الليث عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فيصيبهم الجنابة، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرّاً للماء إلاّ في المسجد، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وأصل العبور: القطع يقال: عبر الطريق والنهر إذا قطعهما وجال فيهما.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} جمع مريض. إسماعيل عن أبيه عن الحسين عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ مسجدي حرام على كلِّ حائض من النساء، وعلى كلِّ جُنب من الرجال إلاّ على محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام».
وأراد به مرضاً يضرّه مساس الماء كالجدري والجروح والقروح، أو كسر قد وضع عليه الجبائر، فإنّه رخّص له في التيمّم، هذا قول جماعة من الفقهاء، إلاّ ما ذهب إليه عطاء والحسن أنه لا يتيمّم مع وجود الماء، واحتّجا بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ} [النساء: 43]، وهذا واجد الماء.
وهذا غلط، لما روى عطاء عن جابر قال: خرجنا في سفر وأصاب رجلا معنا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسلَ، فمات، فلمّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله، هلاّ سألوا إذا لم يعلموا، فإنّما شفاء العىّ السّؤال، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده».
{أَوْ على سَفَرٍ} طويلا كان أو قصيراً، فله التيمّم عند عدم الماء، فإذا لم يكن مرض ولا سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يُعدم فيه الماء عادة، مثل أن يكون في مصر فانقطع الماء عنه رأساً، أو في قرية فانقطع ماؤها، ففيه ثلاث مذاهب: ذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنّ عليه التيمم والصّلاة ويعيد الصّلاة، وذهب مالك والأوزاعي وأبو يوسف إلى إنّه يتيمّم ويصلّي ولا إعادة عليه، وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يتيمّم ولا يصلّي، ولكنّه يصبر حتى يجد الماء ويتوضأ ويصلّي.
{أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} قرأ الزّهري: {من الغيط}، والغيط والغوط والغائط كلُّها بمعنًى واحد، وهي الخبت المطمئن من الأرض، وقال مجاهد: هو الوادي، الحسن: الغور من الأودية، وتصوّب. المؤرّخ: قرارة من الأرض يحفها الكرم ويسترها، وجمعها غيطان، والفعل منه (غاط يغوط)، مثل (عاد يعود). وتغوّط يتغوّط، إذا أتى الغائط، وكانوا يتبرّزون هناك فكنّى عن الحدث بالغائط مثل العذرة والحدث، وهو هاهنا كناية عن حاجة البطن.
{أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} قرأ حمزة والكسائي وخلف: {لمستم} بغير ألف هاهنا، وفي المائدة وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالألف فيهما وهو اختيار أبي حاتم.
واختلف المفسّرون في معنى اللمس والملامسة، فقال قوم: المجامعة، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقال سعيد بن جبير: ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: هو الجماع، فأتيت ابن عباس فذكرت له، فقال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: من الموالي.
قال: غُلب فريق الموالي، إنّ اللمس والمسّ والمباشرةَ الجماعُ، لكنّ الله يكنّي عمّا يشاء بما يشاء، وعلى هذا القول إنّما كنّى عن اللمس بالجماع؛ لأنّ اللمس يوصَل إليه، كما يقال للسّحاب: سماء، وللمطر: سماء وللكلأ سماء لأنّ بالسحاب يوصل إلى المطر، وبالمطر يوصل إلى الكلأ، قال الشاعر:
إذا سقط السّماء بأرض قوم ** رعيناه وإنْ كانوا غضابا

وقال الآخرون: هو التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأبي عبيدة ومنصور وعبيدة والشعبي والنخعي وحماد والحكم.
واختلف العلماء في حكم الآية على خمسة مذاهب، فقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهارة به، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة.
وقال الأوزاعي: إن كان للمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه، فأجراه مجرى مسّ الفرج.
وقال مالك والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: إذا كان اللمسّ للشهوة نقض، وإنْ كان لغير شهوة لم ينقض، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إنْ كانت ملامسة فاحشة نقضت وإلاّ لم تنقض، والملامسة الفاحشة: ما تحدث الإفساد.
وذهبت طائفة إلى إنّ الملامسة لا تنقض الطهارة بحال، وبه قال من الصحابة ابن عباس، ومن التابعين الحسن البصري، وإليه ذهب محمد بن الحسين.
وعن الثوري روايتان: إحداهمها هذا، والثانية مثل قول مالك بدليل الشافعي من الآية أنّ الملامسة باليد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه نهى عن بيع الملامسة، واللمس أكثر ما يستعمل في لمس اليد، وأنشد الشافعي:
لمست بكفي كفّه طلب الغنى ** ولم أدر أن الجود من كفّه يُعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ** أفدت وأعداني فأنفقت ما عندي

روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: جسها بيده من الملامسة، ويدل عليه ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ أنّ رجلا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الرجل ينال من امرأة لا تحل له ما يناله من امرأته إلاّ الجماع، فقال: «يتوضّأ وضوءاً حسناً»، فثبت أنّ اللمسّ ينقض الوضوء.
احتج من لم يوجب الوضوء بالملامسة نفسها، بما روى مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلىّ، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح».
وروى عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي وأنا لمعترضة بين يديه اعتراض الجارية حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله».
وروي الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من غضبك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
وفي بعض الاخبار: فلما فرغ من صلاته قال لي: «يا عائشة أتاكِ شيطانكِ؟»، قالوا: فلمسته عايشة وهو في الصلاة فمضى فيها.
ولأجل هذه الأخبار خصّ من ذكرنا مسّ الشهوة بنقض الوضوء. روى أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقبّل بعض أزواجه ثم يصلّي ولا يتوضأ.
وأمّا الغسل وكيفية الملامسة على مذهب الشافعي فهو على ثلاثة أوجه: لمس ينقض الوضوء قولا واحداً، ولمس لا ينقض الوضوء، ولمس مختلف فيه، فالذي ينقض الوضوء ملامسة الرجل المرأة الشابة [....] متعمداً حية كانت أو ميتة، والذي لا ينقضه ملامسة الشعر والسنّ والظفر، والذي اختلف فيه هو أن يلمس فتاة صغيرة، أو امرأة كبيرة، أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحلّ له نكاحها، وفيه قولان: أحدهما ينقض الوضوء لأنه لمس متعمد [....]، والثاني لا ينقض لانّه لا تدخل للشهوة فيهن، يدلّ عليه ما روي عن أبي قتادة السلمي الانصاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وهذا حكم الملامسة إذا لم يكن حائل، فأمّا إن كانت من دون حائل فإنها تنقض الطهارة سواء كان الحائل صفيقاً أو رقيقاً، هذا قول الجمهور.
وقال مالك: ينقضها إن كان رقيقاً ولا ينقضها إن كان صفيقاً، وقال الليث وربيعة: ينقضها سواء كان صفيقاً أو رقيقاً، والدليل على أنّها لا تنقض الوضوء إذا كانت من دون حائل ظاهر الآية {لاَمَسْتُمُ} فإذا لمسها مع الحائل فما لمسها وإنّما لمس الحائل، وعليه إنّه لو حلف ألاّ يلمسها ولمسها من وراء حائل لم يحنث.
فهذا كلّه حكم اللامس، وأما الملموس فهل ينتقض به طهره أم لا؟ فعلى قولين للشافعي:
أحدهما: أنّه ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ.
والثاني: لا ينتقض لخبر عائشة: فوقعت يدي على أخمص قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ} اعلم أنّ التيمّم من خصائص هذه الأُمة لما روى ربّعي بن خمّاش، عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضّلنا على الناس بثلاث: جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، جُعلت الأرض لنا مسجداً، وجُعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء».
وأما بدء التيمّم فأخبر مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء، حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي وكنت استعرتها من أسماء، فصلّ، أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالتماسه فالتُمس، فلم يوجد، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم فباتوا ليلتهم تلك، وأقاموا على النجاسة وليسوا على ماء وليس عندهم ماء، فأتى الناس أبا بكر، فقالوا: ألا ترى إلى عائشة حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء؟ فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فعاتبني، وقال: ما شاء الله وقال: قبّحها الله من قلادة حبست الناس على غير ماء وقد حضرت الصلاة، ثم طعن بيده على خاصرتي فما منعني من التحريك إلاّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعاً رأسه على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله عزّ وجلّ آية التيمّم».
قالت: فبعثت البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته، فقال أُسيد بن حضير: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر جزاكم الله خيراً، فوالله ما نزل بكِ أمر قط تكرهينه إلاّ جُعل لكِ وللمسلمين فيه خيرٌ.
فأباح الله تعالى التيمّم لخمس شرائط:
أحدها: دخول وقت الصلاة، فلا يجوز التيمّم إلاّ بعد دخول وقت الصّلاة، وقد يجمع بالتيمم بين صلاتي فرض، هذا قول عليّ وابن عباس وابن حمزة ومذهب مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، قالوا: لأنها طهارة ضرورة، فقسناها على المستحاضة، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأينما أدركتكم الصّلاة فتيمّموا وصلّوا».
وروى أبو إسحاق عن الحريث عن عليَ رضى الله عنه قال: «تيمّموا لكلِّ صلاة».
وروى ابن المهدي عن عاصم الأحول عن عمرو بن قيس قال: بل تتيمم لكلِّ صلاة وإن لم تحدث.
وذهبت طائفة إلى أنّ التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ويصلّي من الحدث الأكبر إلى الحدث لمساً من الفرايض والنوافل، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن والثوري وأبي عبيدة واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصّعيد الطيّب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج».
والشرط الثاني من الشرايط المبيحة للتيمم: طلب الماء، وكيفيّة الطلب أن يطلبه في رحله فإنْ لم يجد طلب من أصحابه، فإنْ لم يجد عندهم طلبَ يميناً وشمالا ووراء وأمام، فإن كان هناك تلّ صعد ونظر، فإنْ رأى إنساناً قادماً فليتعرّف منه، فإنْ تيمم قبل الطلب لم يصح عند أكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: طلب الماء ليس بشرط في جواز التيمم بل مستحب، فان تيمم قبله أجزأه، لأنه لو كان شرطاً فيه لكان شرطاً في النافلة لعدم الماء، ولما كان التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضاً للفريضة دونه، دليلها قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}، ولا يقال: لم يجز إلاّ لمن طلب الماء، والدليل عليه أنّه لو وكّل وكيلا ليشتري له شيتاً فان لم يجد فخيّره فاشترى الشيء الثاني قبل طلبه الأول ضمن.
والشرط الثالث: إعوازه بعد طلبه، فأمّا إذا كان بينه وبين الماء حائل من لص أو عدو أو سبع أو جمل صائل أو نار ونحوها فهو عادم للماء، وكذلك إن كان عليه ضرر في إتيانه مثل أن يخاف على رحله إن غاب عنه، وكذلك إن كان الماء في بئر ولم يمكنه الوصول إليه.
والشرط الرابع: العذر من مرض أو سفر لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ}.
والمرض على ثلاثة أضرب: مرض لا يضرّ استعمال الماء معه، فلا يجوز التيمم معه، وضرب يخاف معه من استعمال الماء التلف فيجوز معه التيمم، وكذلك إن كان على قرحه دم يخاف إن غسله التلف تيمّمَ، وأعاد إذا قدر على غسل الدم، وضرب يخاف باستعماله الماء الزيادة في العلّة بطء البرء، والمتعيّن فيه أوجه:
الأول: أنه يجوز التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: أنه لا يجوز فإنْ كانت الجراحة في بعض جسده دون بعض، غسل ما لا ضرر عليه وتيمّم، ولا يجزيه أحدهما دون الآخر، وقال أبو حنيفة: إذا كان أكثر بدنه لزمه الوضوء واستعمال الماء، ولم يُجزِهِ معه التيمم ولا دونه، وإن كان أكثر بدنه جريحاً يسقط عنه فرض الوضوء والغسل ويجزيه التيمم في الجميع.
قال: (ولا يجوز الجمع بين استعمال الماء في بعض الأعضاء والتيمم في بعضها)، وكذلك لو وجد الجُنب أو المحدث من الماء ما لا يسع المحدث لوضوئه، ولا الجُنب لأغساله، وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: أنه يسقط فرض استعماله الماء ويكفيه التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمزني.
والقول الثاني: يلزمه استعمال القدر الذي وجده، والتيمم كما حُدّثته، وإن كان جُنباً غسل به أي أعضائه شاء ثم تيمّم على الوجه واليدين، وإن كان محدثاً غسل وجهه ثم يديه على الترتيب ثم تيمّم لما لم يغسل من أعضاء الوضوء، حتى لو غسل جميع أعضاء وضوئه وبقيت لمعة من رجله لم يصبها ماء فإنه يتيمّم لها.
وإن انكسر بعض أعضائه فجبرها، فإنه لا يعدو في الجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلاّ على وضوء كالخفين، فان وضعها على الطهارة فله أن يمسح على الجبيرة ما دام العذر باقياً ثم هل يلزمه إعادة الصلوات التي صلاّها بالمسح على الجبائر أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: عليه الإعادة.
والثاني: لا إعادة عليه، وهو اختيار المزني، والدليل عليه ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده أن حزماً انكسر إحدى زنديه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر، قال الشافعي: إن صح حديث عليّ قلت به، وهذا مما استخير الله فيه. وإن وضعها على غير الطهارة وعدا بها إلى غير موضع الكسر ينظر؛ فإن لم يخشَ تلف يديه أو عضو من أعضائه نزعها، وإن خاف على ذلك لم ينزعها، ولكنه يغسل ما يقدر عليه، ويعيد الصلاة إذا قدر على نزعها.
وأمّا السفر فهو أقل ما يقع عليه اسم سفر، طالت أو قصرت؛ لأنّ الله تعالى لم يفرّق بينهما، دليله ما أخبر الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر: إنّه أقبل من الجُرف حتى إذا كان بالمدينة تيمّم فمسح وجهه ويديه وصلّى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يُعد الصلاة، والجرف قريب من المدينة.
والشرط الخامس: النية المكنونة.
وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} عنى: اقصدوا تراباً طيباً، واختلف العلماء في الممسوح به في التيمم على أربعة مذاهب:
قال أبو حنيفة: يجوز التيمم بالأرض ومما كان من جنسها، وإن لم يعلق بيده منها شيء، فأجاز بالكحل والزرنيخ والنورة من الجصّ والحجر المسحوق، بل وحتّى الغبار، وحتى فيما لو ضرب يده على صخرة ملساء فمسح أجزاه، فأمّا إن تيمّم بسحالة الذهب والفضة والصفر والرصاص والنحاس لم يجزه، لإنّه ليس من جنس الأرض.
قال مالك: يجوز بالأرض وبكلِّ ما اتّصل فيها، فأجاز التيمم بأجناس الأرض والشجر، فقال: لو ضرب يده على غيره ثم مسح بها أجزأه.
وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وبكلِّ ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها حتى قالا: لو ضرب يديه على الجمد والثلج أجزاه، واحتجوا بما روى عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة، حتى دخلنا على أبي جهيم الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو جهيم: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر الجمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه».
وذهب الشافعي إلى أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار تعلّق باليد وهو الاختيار لهذا؛ لأن الله عزّ وجلّ قال: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فالصعيد اسم التراب، والطيب اسم لما ينبت، فأمّا ما لا ينبت من الأرض فليس بطيّب، والدليل عليه قوله تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جُعلتْ لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً»، فخصّ التراب ذلك، والله أعلم.
{فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} وقد مضى الكلام في الممسوح به، فأما قدر الممسوح وكيفية التيمم، فاختلف الناس فيه على خمسة مذاهب:
فقال الزهري: تمسح على الوجه واليدين إلى الآباط والمناكب، واحتجّ بما روى عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان في سفر ومعه عائشة فضلّ عقدها، فاحتبسوا في طلبه يوماً، قال: فنزلت آية التيمم، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم، ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ثم بطون أيديهم إلى الآباط.
وقال ابن سيرين: ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للمرفقين، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله، ومن التابعين الحسن البصري والشعبي، ومن الفقهاء أبو حنيفة وحنبل ومالك والليث، رضي الله عنهم، واحتجوا بما روى الأعرج عن أبي الصمّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمّم فمسح وجهه وذراعيه.
وروى أبو أُمامة وابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين».
وروى ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن أسلع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارجل بنا يا أسلع». فقلت: أنا جُنب. فسكت، إلى مكة فنزلت آية التيمّم، فقال: «يكفيك هذا». فضرب بكفّيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه؛ ظاهرهما وباطنهما. وقال عليٌّ كرم الله وجهه: «هو ضربتان: ضربة للوجه وضربة للكفين».
وذهبت طائفة إلى أنه ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول سعيد بن المسيّب، والأوزاعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقول الله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، قالوا واليد على الإطلاق يتناول الكفّ إلى الكوع، بدليل أنّ السارق تقطع يده إلى الكوع، وقد قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فاحتجوا بما روى سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار بن ياسر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربة للوجه والكفين، والتيمّم من الجنابة كالتيمّم من الحدث».
فإذا عدم الجنب الماء تيمّم كما يتيمّم المحدث بلا خلاف فيه إلاّ ما روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا: لا يحقّ للجُنب التيمّم، ولكنه يصبر إلى أن يجد الماء فيغتسل، وقال مفسرّاً قوله عزّ وجلّ: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} أراد اللمس باليد دون الجماع.
وروى الأعمش عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي أنّ رجلا سأل عمر عن جُنب لا يجد الماء، فقال: لا يصلّي حتى يجد الماء، فقال عمار بن ياسر: أما تذكر حين بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وأجنبت فتمعكت في التراب، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: «قد كان يكفيك أن تفعل كذا وكذا». وضرب بيده على الأرض فمسح وجهه وبدنه؟ فقال: «اتّقِ الله يا عمار»، فقال: إن شئت لم أذكره أبداً.
وروى عمار بن ياسر عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي، قال: كنت عند عمر رضي الله عنه، فسأله أعرابي فقال: إنّا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء، فقال: أمّا أنا فلو كنت لم أصلّ، فقال عمار بن ياسر: أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في الإبل؟ فقال: بلى. قال: فأنت أجنبت فتمعكت في التراب فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فضحك، وقال: «كان يجزيك هكذا». وبسط عمّار كفيه، ووضعهما على الأرض ثم نفض إحداهما بالأُخرى فمسح بهما وجهه، ووصل الكفين بشيء من الذراعين يسير، فقال عمر: اتّقِ الله يا عمار. فقال: يا أمير المؤمنين لو شئت لم اتفوّه به أبداً، قال: لا بل نولّيك ما تولّيت.
وروى الأعمش عن شقيق قال: كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، الرجل جُنب فلا يجد الماء أُيصلّي؟ فقال: لا. فقال: أما تذكر قول عمار لعمر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأنت فأجنبت فتمعّكت في التراب، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: «كان يكفيه هكذا». وضرب بيديه الأرض فسمح وجهه ويديه؟ فقال: لم أر عمر قنع بذلك، قال: فما يصنع بهذه الآية {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}؟ فقال: أما إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لكان أحدهم إذا وجد برد الماء تيمّم بالصعيد، قال الأعمش: فقلت لشقيق فلم يكن هذا إلاّ حباً له، قال: يدلّ علي أن صلاة الجُنب بالتيمّم جايز، ما روى ابن عوف عن أبي رجاء، قال: سمعت عمران بن حصين يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصلِّ في القوم، فقال: «يا فلان، ما منعك أن تصلّي مع القوم؟». فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: «عليك بالصعيد فإنّه يكفيك».
وروى مسلم عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال: «صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجل جُنب، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتيمّم ويصلّي، فلمّا وجد الماء أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ولم يأمره أن يعيد».
عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين».
قوله عزّ وجلّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} يعني يهود المدينة، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب ومالك بن دخشم، كانا إذا تكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا لسانيهما وعاباه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{يَشْتَرُونَ الضلالة} مختصر تقديره: ويشترون الضّلالة بالهدى {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ} يا معشر المؤمنين، وقرأ الحسن تُضَلّوا، {السبيل} أي عن السبيل.
{والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} منكم، فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم، ويجوز أن يكون {أَعْلَمُ} بمعنى عليم كقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، {وكفى بالله نَصِيراً * مِّنَ الذين هَادُواْ}، فإنّ شئت جعلتها متصلة بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} {مِّنَ الذين هَادُواْ}، وإنّ شئت جعلتها منقطعة عنها مستأنفة، ويكون المعنى: من الذين هادوا مَن يحرّفون، كقوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] اي من له مقام معلوم، وقال ذو الرمّة:
فظلوا ومنهم دمعُهُ سابق له ** وآخر يذري دمعة العين بالمهل

يريد: ومنهم من دمعه.
{يُحَرِّفُونَ} يغيّرون، {الكلم} وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكلام عن مواضعه، يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم، وقال ابن عباس:كان اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم، ويرى أنّهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي غير مقبول منك، وقيل: هو مثل قولهم: اسمع لا سمعت.
{وَرَاعِنَا}: وارعنا، وقد مضت القصة في سورة البقرة، {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً} قدحاً {فِي الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا} مكان راعنا {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ} أصوب وأعدل، {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب} خاصة باليهود، {آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} يعني القرآن، {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} قال ابن عباس: كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنّكم تعلمون أنّ الذي جئتكم به لحقّ»، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد وأنكروا وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله عزّ وجلّ {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ}.
{مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} قراءة العامة بكسر الميم، وقرأ أبو رجاء بضمّها، وهما لغتان، قال ابن عباس: يجعلها كخفّ البعير أو كحافر الدابة.
قتادة والضحاك: نعميها، ذَكر الوجه والمراد به العين {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} أي نحوّل وجوهها إلى ظهورها، ونجعل أبصارها من جهة أقفائها، وهذه رواية عطية عن ابن عباس. الفرّاء: الوجوه منابت للشعر كوجوه القردة، لأنّ منابت شعور الآدميين في أدبار وجوههم. القتيبي: نمحو آثارها وملامحها من عين وحاجب وأنف وفم، فنردّها على أدبارها أي كالأقفاء.
فإن قيل: كيف جاز أن يهدّدهم بطمس وجوههم إن لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك؟
فالجواب أن نقول: جعل بعضهم هذا الوعيد باقياً منتظراً، فقال: لابد من طمس وجوه اليهود أي بالمسخ قبل الساعة، وهذا قول المبرّد، وقال بعضهم: كان هذا وعيداً بشرط، فلمّا أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع الباقين، وقيل: لمّا أُنزلت هذه الآية، أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وقال النخعي: قرأ عمر هذه الآية على كعب الأحبار، فقال كعب: يا ربّ أسلمت، يا ربّ أسلمت مخافة أن يشمله وعيد هذه الآية.
وقال سعيد بن جبير: الطمس أن يرتدّوا كفاراً فلا يهتدوا أبداً. الحسن ومجاهد: من قبل أن نُعميَ قوماً عن الصراط وعن بصائر الهدى، فنردّها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه بدءاً، وهو الشام. وأصل الطمس: المحو والإفساد والتحويل، ومنه يقال: رسم طاسم، وطامس أي دارس، والريح تطمس الأثر أي تمحوه وتعفوه.
{أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت} فنجعلهم قردة وخنازير {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً * إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، قال الكلبي: نزلت في المشركين: وحشي بن حرب وأصحابه، وقال: وكان قد جُعل له على قتله أن يعتق، ولم يوفَ له بذلك فلمّا قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا قد ندمنا على الذي صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلاّ أنّا سمعناك تقول وأنت بمكة: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، وقد دعونا مع الله إلهاً آخر، وقتلنا النفس التي حرّم الله، وزنينا، ولولا هذه الآية لاتبعناك، فنزلت {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] الآيتين فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي وأصحابه، فلمّا قرأوها كتبوا إليه: هذا شرط شديد نخاف ألاّ نعمل عملا صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فبعث بها إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه: إنا نخاف ألاّ نكون من أهل مشيئته، فنزلت: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ...} [الزمر: 23]، فبعث بها إليهم فلما قرؤوها دخل هو أصحابه في الإسلام، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لوحشي: «أخبرني كيف قتلت حمزة؟»، فلما أخبره قال: «ويحك غيّب وجهك عنّي»، فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في اليهود {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} فمشيئته لأهل التوحيد. أبو مجلز، عن ابن عمر: نزلت في المؤمنين، وذلك أنّه لمّا نزلت {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل، فقال: والشرك بالله؟ فسكت ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثاً، فنزلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} الآية، فأُثبتت هذه في الزمر وهذه في النساء.
المسيب بن شريك، عن مطرف بن الشخير قال: قال ابن عمر: كنّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا أنّه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ}، فأمسكنا عن الشهادات.
عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المغفرة تحل بالعبد ما لم يرفع الحجاب». قيل: يا رسول الله، وما وقوع الحجاب؟ قال: «الإشراك بالله» ثم قرأ: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية. مسروق عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنّة ولم يضرّه معه خطيئة، كما لو لقيه وهو يشرك به شيئاً دخل النار ولم تنفعه حسنة» وعن عليّ رضي الله عنه عنه قال: «ما في القرآن أرجى إليّ من هذه الآية {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ}».
{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية، قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم عدي بن عمرو والنعمان ابن أوفى وصهيب بن زيد، فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: «لا»، فقالوا: والله ما نحن إلاّ كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل، وما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، فكفّرهم الله تعالى، وأنزلت هذه الآية.
الحسن والضحاك وقتادة وسفيان والسّديّ: نزلت في اليهود والنصارى ممن قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقالوا: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111].
مجاهد وعكرمة: هو أنّهم كانوا يقدّمون أطفالهم في الصّلاة يزعمون أنهم لا ذنب لهم، فتلك التزكية. عطية عن ابن عباس: هو أنّ اليهود قالوا: إنّ آباءنا وأبناءنا تُوفوا، فهم سيشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عبد الله: هو تزكية بعضهم لبعض، وعن طارق ابن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، فيقول: والله إنّك لذيت لذيت، فلعله لا يخلو منه شيء، فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء، ثم قرأ عبد الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}.
{بَلِ الله يُزَكِّي} أي يطهّر من الذنوب {مَن يَشَآءُ} [...] لذلك {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} وهو ما يكون في شق النواة، وقيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ فيكون فعيلا بمعنى مفعول قال الشاعر:
يجمع الجيش ذا الالوف فيغزو ** ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا

{انظُرْ} يا محمد {كَيفَ يَفْتَرُونَ} يحيكون على الله الكذب في تفسيرهم كتابه {وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} قرأ السلميّ: {ألم تره} في كلّ القرآن، وهي لغة قوم لا يكتفون من الجزم بحذف الحرف حتى يسكنوا حركته، كقول الشاعر:
من يهدِه الله يهتدْ لا مضل له ** ومن أضل فما يهديه من هادي

{يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} اختلفوا فيهما، فقال عكرمة: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله. أبو عبيدة: هما كلّ معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شيطان، يدل عليه قوله: {أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، وقوله: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17].
عطية عن ابن عباس: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام الذين يكونون بين أيديهم يفترون عنها الكذب ليضلوا النّاس، وقيل: الجبت: الأوثان، والطاغوت: شياطين الأصنام، لكل صنم شيطان يفسّر عنها فيغترّ بها النّاس. أبو عمرو الشّعبي ومجاهد: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. زيد بن أرقم: الجبت: الساحر، ويقال له: الجبس، قلبت سينه تاء، والطاغوت: الشيطان، يدلّ عليه قوله: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257].
قال محمد بن سيرين ومكحول: الجبت: الكاهن، والطّاغوت: الساحر، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس. سعيد بن جبير وأبو العالية، الجبت: شاعر بلسان الحبشة، والطّاغوت: الكاهن. عكرمة: كان أبو هريرة كاهناً في الجاهلية ممن أقرّ إليه ناس ممّن أسلم، فنزلت هذه الآية. الضحاك والكلبي ومقاتل: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف ودليله قوله: {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} [النساء: 60].
حكى أبو القاسم الحسين، عن بعضهم أنّ الجبت إبليس، والطاغوت أولياؤه، عن قطر بن قيصيه، عن مخارق عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت، والجبت كلّ ما حرّم الله، والطّاغوت هو ما يُطغي الإنسان».
{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} قال المفسّرون: خرج كعب ابن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنّكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب ونحن أُمية، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، وإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل ذلك، فذلك قوله: {يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} ثم قال كعب لأهل مكة: ليجئ منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنَّ على قتال محمد ففعلوا ذلك، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان: إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أمّيون لا نعلم فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب: اعرضوا عليَّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحاج الكرماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفكّ العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمد، فأنزل الله الآية {إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب}: يعني كعباً وأصحابه، يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني الصنمين {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أبي سفيان وأصحابه: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا؛ محمد وأصحابه سبيلا أي ديناً.
{أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.
{أَمْ لَهُمْ} يعني ألهمْ، والميم صلة {نَصِيبٌ} حظ {مِّنَ الملك} وهذا على وجه الإنكار، يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم من الملك {نَقِيراً} من حسدهم وبخلهم وبغضهم. رفع قوله: {يؤتون} [.........].
وفي قراءة عبدالله: فإذاً لا يؤتوا الناس بالنصب [.........].
واختلفوا في النقير، فقال ابن عباس: هو النقطة في ظهر النواة، ومنها: [.......] مجاهد: حبّة النواة التي وسطها.
الضحّاك: يعني النواة الأبيض الذي يكون وسطها. أبو العالية: هو نقر الرجل الشيء بطرف إصبعه، كما يُنقر الدرهم وقال: سألت ابن عباس عنه فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعها وقال: هذا هو النقير.